للاتِّصال

باعتبارنا أبناء الإنسانية الواحدة فإنّا على يقين بأن اختلافنا سطحي وأن تعاملنا غير المتحَيِّز مع بعضنا البعض لن يكون مجدياً لنا جميعاً فحسب، بل إنَّه أهم ما نحتاجه لأجل حياةٍ سعيدة طَيِّبة.

مرحباً بكم أيها الأصدقاء !

أسئلة معتادة

كانت بعثة والدّيّ الدبلوماسية في بون، ألمانيا، وكنت أذهب إلى المدرسة الأمريكية على نهر الراين هناك. كانت معلمتنا في الصف الثالث رائعة، هي السيدة أوخموتي، وقد انتبهت إلى موهبتي وشجعتني على الكتابة لقّبتني بـ"شاعرة الصف". كتبت قصيدتي الأولى تعبيراً عن فرحتي بجهاز التصوير "الكاميرا" الأولى التي أهديت إلي، وكانت الكاميرا هدية مميّزة في الستينات. كانت لغتي العربية حينئذٍ ضعيفة كتابةً لا تتعدّى مستوى الصف الأول الابتدائي، وكان والداي يعلّمانني القراءة والكتابة في البيت. لم أكتب بالعربية إلى أن صرت في سن الرشد واكتسبت خلفية جيدة في المدرسة ثم دعمت ذلك ببعض الدراسات الإسلامية وبالبحث في القرآن الكريم. "

كتبت قصتي الأولى بعمر الـ 12 أو 13، وشبَّهتها بتحرّيات «نانسي درو»، لكن مع الأسف ضاع مني مخطوطها أثناء ترحالنا. هذا بخلاف دفتر المذكرات الأحمر الذي كنت أدَوِّن فيه قصائدي، فلا زال ذلك الدفتر معي حتى يومنا هذا وصفحاته تُسَجِّل تاريخ كل قصيدة فيه. تقودني هذه المفارقة إلى الظن بأنني ربَّما لم أُعِر قصتي الأولى كثير اعتبار وقتها! أما بعد ذلك، حين وجدتُ أبناء وبنات إخوتي الصغار ينشؤون في الغرب، شعرت بضرورة تعريفهم بحضارتنا فبدأت أكتب قصصي لأجلهم. كانت مغامرات التوأمَين العربيين المسلمَين فادي وسنا تدور في بلدةٍ اسميتها مرج الأمل مرسومةٍ على غرار مدينتي دمشق!"

‏ "بدأ الأمر برمته في أحد الأيام، حين أسرعتُ لإنقاذ كعكة جميلة كنت قد قمت بتزيينها بالكريمة وهببتُ أُبعِد الأيدي عنها وصوّرتها للذكرى قبل أن تتلاشى في بطون النسيان!. الفن هو الفن، هذا ما قيل لي بعد أن انتهى الجميع من مدح شكل الكعكة والاستمتاع بمذاقها. سألوني، لِم لا تغمسين سكينتك المتلهِّفة في كوبٍ يشبه الكريمة فترسمي الأزهار كما فعلتِ الآن وتعبّري عن موهبتك الأخّاذة بالألوان الزيتية على القماش بدل الكعك؟ هكذا يمكنك التأكّد بأنَّ فنّك لن يأكله أحد فتشبعي النظر إليه حتى الملل! وهكذا كان. رسمت أول لوحة زيتيةٍ بالسكين فكانت عبارة عن باقة من الأزهار الحمراء والزرقاء في مزهرية صينية، وبالرغم من أنها لا تؤكل إلا أنَّها كانت لذيذة جداً!

‏ لقد جرَّبتها كلها، ووجدتُ الألوان المائية تتطلب الدقة والحذر، وذلك ما لم أستمتع به. أما الأكريليك فيمكِّن الفنّان من الرسم بحرية إذ تتدفَّق ألوانه بحسب الرغبة، فكان الأكريليك هو المفضَّل لدي مؤخَّراً (انظر لوحة الأم والطفل). كنت أرسم معظم لوحاتي للمناظر الطبيعية بالألوان الزيتية التي أحب مزجها وتداخلها مع بعضها، أمّا الصور التي فيها وجوه معبِّرة لأشخاص فهي بطباشير الباستيل. إنّي أستمتع بالباستيل، ربما بسبب العلاقة التي أشعر بها بين الرسم وبين أصابعي عندما أمرُّ برؤوسها على اللوحة المرسومة برمَّتها وكأن أصابعي هي الريشة، أخَفِّف اللون، أزيده بالطبشور أو أنفخ عليه لأزيله. إن الرسم بالباستيل يشبه الرسم بالأصابع عند الأطفال: إنها متعة حقيقية!

"من وجهة نظري، يبدأ بناء السلام من الأساسات كأي شيء يُبنى، ويواكب السِلمُ كل مرحلةٍ تُبنى فيه إلى أن يكتمل المبنى بإرساء السلام المكين الذي يقاوم فيصمد أمام أي عنف حوله أو صراع.

ولأجل بناء السلام، علينا أن نبدأ من سنٍّ مبكّرةٍ فننظر إلى الآخرين ونتعامَل معهم بأنَّهم مرآة لأنفسنا، وعلينا أن نتَّزن في تفكيرنا وندرك أن الدَوَران هي طبيعة الأمور كلها، وأنَّ كل قضية لا بُدَّ وأن تتعدَّد أسبابها واحتمالات نتائجها، وحينئذٍ يصبح من الصعب إلقاء كامل اللوم على أي طرفٍ بمفرده بل تقع مسؤولية المشكلة – وإمكانية حلِّها كذلك – على عاتق جميع الأطراف وبذلك يتم الحفاظ على توازن المبنى الذي بنيناه.

أما صنع السلام، فهو يهدف إلى إنهاء صراعٍ قائم بالفعل، حيث يسعى صانع السلام (إن كان مثالياً) أن يكون محايداً تماماً، معيناً الأطراف المتناحرة على تسوية خلافاتهم من خلال التفاوض والوساطة والتوفيق والتحكيم. سوف يفشل حتماً صانعو السلام في توسطهم إذا مالوا إلى جانب من الصراع دون آخر أو ركَّزوا على مصالحهم الذاتية. أما بالنسبة إلى السلام المُستدام، فذلك هو الإنجاز الأسمى الذي يتطلب من صانعي السلام أن يبدأوا من الأساسات، أي أن يكونوا بُناة سلامٍ أولاً.

لهذا السبب فإن بناة السلام هم صانعو السلام بامتياز، وليس العكس.

"لقد صغر العالَم وصار بإمكاننا الوصول افتراضياً إلى أطرافه في أقل من الثانية، وبما أنَّ القرآن الكريم هو كتاب الله الذي يجلّه ويقدّسه حوالي ربع سكان العالَم اليوم، فمن البديهي أن نرى أمامنا بشكلٍ متزايد نتائج متفرِّقة ومختلفة لما يفهمه الناس من نصوصه.

إن مثل هذا التأثير واضح اليوم حين يسعى الكثيرون لإسماع العالَم أصواتهم المطالبة بحقوقٍ حُرِموا منها مع عدم ارتياح آخرين لأصوات تبدو لهم "إسلامية" .. ولكن: إذا فهم الناس القرآن سيفهمون أن الإسلام هو المطمح الذي علينا السعي نحوه، فهو المَثَل الأعلى في تعامل الناس بعضهم ببعض وأنَّ الدين المسمّى "الإسلام" هو في الحقيقة سُلّم إدانة ربّاني لا تشوبه شائبة، كلنا مُدان بحسبه مع اختلاف عقائدنا فكلٌّ مِنّا مسؤول أمام الله آتيه فردا، وكلٌّ مِنّا مسؤول أمام المجتمع بشكلٍ عامٍ.

لقد أثبَتَتْ لي أبحاثي وما رأيته من عالمية القرآن ورفعه إمكاناتنا وتزويدنا بالتقوى (والتقوى خلاف العدوان) أنَّ تدبّر ألفاظ القرآن وآياته هو الوسيلة التي بها يُرأب الصدع الذي يفرقنا عن بعضنا البعض وهو ما نحتاجه لأجل بناء السلام."

لقد تبدَّل مع الزمن فهم السائد للعديد من كلمات اللغة العربية فابتعدت عن مدلولاتها الأصيلة المتعارف عليها أيام الرسالة، ولهذا قد نجد فارقاً أحياناً بين ما نفهمه من بعض الألفاظ والآيات القرآنية وما تعنيه بالفعل. لقد كان لهذا الفهم الخاطئ دوراً في خلق المشاكل والصراعات.

 

يُكشَف المعنى الأصيل لكلمات اللسان العربي من خلال البحث في أحد أقدم المعاجم وهو معجم مقاييس اللغة لإمام اللغة والأدب أحمد بن فارس بن زكريا (395-329 هـ/941-1004م). ثمَّ ومن خلال البحث عن الكلمة ذاتها في سياق الآيات يتبيَّن لنا معناها القرآني فنرى كيف أسأنا فهم معنى بعض الكلمات الهامة- وندرك كيف أننا -نحن "المسلمون"- قد دفعنا الثمن. إحدى هذه المعاني هي معنى كلمة "الشكر" التي حسبناها شبيهة بالامتنان من حيث الإحساس والتعبير، في حين أنَّ الشكر هو العمل باليسير حتى يمتلئ ويغزر ويصبح كثيراً، وبما أننا لم نُدرِك أن واجبنا هو العمل شكراً لنكون منتجين بدل أن نكون مجرَّد مستهلكين، ما كان لنا إلا أن خسرنا الكثير من النعم التي أنعَم الله علينا بها، وإنَّ المجتمعات الإسلامية الأولى لم تتقدَّم وتزدهر إلا لفهمها ذلك المعنى الأصيل.

 

إننا اليوم بحاجة جوهرية إلى معرفة المفاهيم الصحيحة التي نرتقي من خلالها من مجتمعٍ قوَّال إلى مجتمعٍ فعّالٍ، كل أفراده شاكرين عاملين. ثم نرى تزايداً في عالمنا الحالي عموماً لعقلية الـ"نحن" مقابل "الغير" في حين أنَّ رسالة الله -منذ بداية الوحي وحتى آخِر الزمن- كانت وستبقى للناس كافَّة، فمع ندائها إلى الذين آمنوا وإلى أهل الكتاب فإنّ الرسالة الربّانية تدعو الناس جميعاً تذكّرهم بالأنبياء المُرسَلين إليهم. إننا نجد أسماء نبيين كثر في القرآن، فاسم النبي موسى مثلاً نجده وارداً في القرآن 136 مرة بينما لا يرد اسم النبي محمد إلا 4 مرات. في الواقع، حين نفطن إلى أنَّ الإسلام هو دين الله الـ "عالَمي" الذي سنُدان به عنده جميعاً وهو ذات الدين الذي علينا أن ندين أنفسنا به، فإننا لن نتفاجأ بأنَّ القرآن نادانا بـ"يا أيها الذين آمنوا" 89 مرة- في حين أنَّه لم يُنادِ على المسلمين قط، ربما لأنَّ كل من أسلم وقتها فدخل السِلم وامتنع عن معاداة الذين آمنوا أصبح -بحسب المفهوم آنذاك- في عداد المسلمين، حتى ولو لم يدخل الإيمان قلبه (كما في سورة الحجرات 49:14). إن مفاهيم القرآن أكثر شمولية مما يُتصوَّر. "

"من المؤكد أن العصبية تولِّد العصبية، ولكن لو كان كل منّا صادقاً، بارّاً بوصفه "إنسان" يأنَس ويُستأنس به -والأنس خلاف التوحّش- ما كان ليتعصَّب وينادي بالتعصُّب ودوام الوحشة (بل الوحشية أحياناً) ضد أخيه الإنسان! فربنا خالقنا ينادي الإنسانية جمعاء قائلاً في كتابه الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‎﴿الحجرات: ١٣﴾‏
ولا زال أكثر الناس يجهلون ما يخبرنا به القرآن: إن التقوى خلاف العدوان! فما الذي جرى لنا -ونحن الناس- حتى تخلينا عن هويتنا وعن الغرض من تنوعنا شعوباً وقبائل نتعارَف ونستبق في التزوُّد بالتقوى؟ فإننا أول ما خلقنا الله بشراً، دلَّ اسمنا على بُشرى لما سيكون، ثم جعلت نفخة الروح من البشر إنساناً واعياً يأنس ويستأنس به، تسجد له الملائكة ويتعلَّم الأسماء كلها ويصبح مسؤولاً عن أفعاله.
لِذا فإننا نتحمل مسؤولية وجود العصبية، وقد نسمّيها دينية، طائفية، أو عرقية.. مهما كان اسمها، هي الضغينة بالتعريف القرآني، ونتحمّل كذلك مسؤولية استفحالها فيما بيننا، فالضغينة وكل ما تجرّه من القبح لا توجَد من تلقاء نفسها، بل نتعلَّمها تعلُّماً ونخفيها في قلوبنا، وهي مرض خطير علينا الاستشفاء منه! أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‎﴿محمد: ٢٩﴾‏
إن الضغينة تجعل الناس خدّاماً لقِيَمٍ ضيقة صنعوها لأنفسهم، وبسبب ولائهم لجماعتهم نراهم عادةً ما ينادون بشعاراتٍ نبيلةٍ يتّخذونها ذريعةَ وحشتهم عن بقية الناس، وغالباً ما يجعلون الدين أو اسم الله جزءاً من شعارهم لإضفاء الشرعية على أنفسهم. لكنهم من خلال قيامهم بكل ذلك ما كان منهم إلا أن منعوا أنفسهم من رؤية الخير في الآخرين معزَّزين العداوة والبغضاء تجاههم. إذا قرأنا الماضي سنجد الإرهاب والإرهابيين موجودين عبر التاريخ بأسماء أخرى، كانت نشأتهم في الغالب من خلفيات تدعو إلى الاختلاف كتلك التي ذكرناها.

أما في مقابل كل ذلك، فإن المبتعدون عن الضغائن البشرية المتحرَّرون من الولاءات إليها لديهم كامل الحرية في تقديم ولائهم وإخلاصهم إلى الخالق والامتثال إلى القيم التي وضعها عزَّ وجلّ لصالحهم خاصّةً وصالح الإنسانية عامةً. إن القيم العالمية التي وضعها الله لنا ليست معروفة لدينا جميعاً فحسب، بل إنها مُلزِمة لنا جميعاً أيضاً بمعيار واحد – ميزانٍ واحد- دين واحد نُدان به، وبالرغم من جهل الناس بذلك، فقد تم من الناس حول الأرض الاتفاق عليه بالفعل! فهذه القيم معروفة لدى الناس تحت أسماء مختلفة وهي واحدة مع اختلافات طفيفة: انظر المحرَّمات على الصراط المستقيم في سورة الأنعام 6: 151-153؛ ثم "الوصايا العشر" في الكتاب المقدس لدى اليهود والمسيحيين، ثم "المبادئ" العشرة لدى البوذية، و"قواعد السلوك" ياما ونياما العشرة لدى الهندوسية. لذلك أقول لمن يرى أن جماعة ما لا تشاركنا في القِيَم: إن الضغينة والجشع هما اللذان يطمحان للإنسانية أن تبقى متفرِّقة وسيلوِّثان تلك القيم الجميلة لأجل ألا نجتمع! صحيح أن بعض المفسّرين فسّروا بعض الآيات بتَحَيُّز، وصحيح أننا رأينا وسمعنا أفعالاً وأقوالاً تدعو إلى التحيّز ممن كان "مسلماً" وأيضاً ممن كان "معادياً للإسلام"، فقد ساهم كل أولئك برسمنا بالشكل السلبي الذي نلمسه اليوم. لكن بالرغم من أن هذا الأمر مؤسف بل ومؤلم للغاية، إلا أننا لا ينبغي أن نركز جهدنا على إعادة رسم هذه الصورة، بل ما يجب أن نركِّز جهدنا عليه هو الامتثال لهويّتنا إن كنا من الذين آمنوا ثم الإعلام عنها من خلال معاملتنا وعلاقتنا بالخليقة والخالق، مع تسليط الضوء على حقيقة أنَّ التقوى على المستوى الفردي (وهي خلاف العدوان) والسلام على المستوى الجماعي هما الأساس. إنَّ ازدهار البشرية وتحقيق إمكاناتها مرتبط بالاثنين معاً."

"ما أسعى إليه هو فهم مقصد كل آية من آيات القرآن العربي الموحى قبل أكثر من 1400 عام، وبالتالي، فالفهم الذي أبحث عنه ليس بالجديد أبداً بل إنّه هو القديم الأصيل. إن العثور على التعاريف الأصيلة أمر ممكن بفضل جهود عددٍ لا يُحصى من العلماء والباحثين الذين كتب بعضهم معاجم اللغة منذ أكثر من 1000 عام فيما عمل بعضهم الآخر على حفظها ونشرها. لكنني أدرك أنَّه قد يُنظر إلى أي تعريف أصيل اليوم على أنه "جديد" لأنه ببساطة قد عاد إلى الظهور لأشخاص لا علم لهم بوجوده!

أما عن المنهج أو الأدوات، فقبل البحث والكتب لدينا القلب (المَلَكة؛ ليس العضو الذي نسمّيه قلباً اليوم فحسب بل إنَّ القلب مَلَكة)، فالقلب هو الذي يزيغ ويتقلّب وتعتليه الأقفال أحياناً تمسكه- وهو الذي يعقل ويفقه ويتدبّر- وللتسهيل سأسمّيه هنا "الفِكر" الذي يتفكّر (فك + كرّ= يفكك الأمور، وقد يكرر فكَّها إلى أن يتدبّرها ويسبر دُبُرها والمغزى من ورائها) فالتفكّر (بالتدبّر) هو أداتنا الفطرية التي نعالج بها المعلومات وفقاً لبنود "اقرأ" الستة حيث ندرس تعاريف الألفاظ ونقارن بين التفاسير والترجمات الموجودة، مع الأخذ في عين الاعتبار دائماً أنَّه يجب التدقيق في أي استنتاج من حيث سياقه في النص القرآني.

فالأدوات المستخدمة إذاً هي التفكُّر والتدبّر في السياق القرآني والمعاجم العربية الأصيلة.. بحثاً ثم بحثاً ثم بحثاً."

"بالتأكيد. لكنني لا أجادل أحداً. ما أقوم به فقط هو عرض ما توصلت إليه من نتائج على أمل أن يعينني الناس في تصويبه من حيث اللغة أو من خلال السياق القرآني في حالة تقصيري في البحث. لذا أسعى دائماً إلى سؤال اللغويين، علماء اللغة الذين صلح إيمانهم، لتقييم النتائج التي أتوصل إليها وذلك قبل أن أنشرها في كتاباتي.
لهذا، إذا أراد أحدهم فعلاً أن يَعلم أو يُعلِمَني ببحثٍ أكثر دقة، فإننا حينئذٍ نتجاذب الحديث ولا نتجادل، وكلانا يستفيد.
فأبحاثي ليست نهائية أبدًا بل يجب مراجعتها باستمرار، خاصة فيما يتعلق برسالة القرآن الكريم الخالدة. ولهذا السبب بالذات تراني الآن، في عام 2023، أراجع مدونة القرآن الكريم التي كتبتها بين عامي 2010- 2013 والتي تتكوَّن من أكثر من ألف صفحة – أراجعها وأصوِّبها."

"نحن مسؤولون أمام الله وأمام والِدَينا وأبنائنا وأولي القربى والمساكين وأبناء السبيل واليتامى ومسؤولون كذلك في الحفاظ على الأسرة وفي حفظ الحياة بشكل عام، وفي إقامة الوزن بالقسط و المشي على الأرض هَوناً والعناية ببيئتها الفطرية، وغير ذلك مما وَرَدَ في القرآن وفي ما أُنزِل قبله من الكتاب."

"يخبرنا الله في كتابه الكريم أنَّه خلقنا من ذكرٍ وأنثى وجعلنا شعوباً وقبائل لكي نتعارف في هذه الحياة الدنيا وقد أمرنا فيها بأن نتزَوَّد بالتقوى، والتقوى هي خير الزاد لا ندرك من عظيم خيرها إلا اليسير: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ‎﴿الحجرات: ١٣﴾‏

وبالتقوى نزداد عِلماً:

Qur’an 2:282: ………واتَّقُوا اللَّـهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّـهُ
﴿... وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾‏ ‎﴿البقرة: ٢٨٢﴾‏

فإن كان أكرمنا عند الله في نهاية المطاف هو من كان أتقانا، فالتقوى إذاً هي من الأساسيّات. ولدى تدبُّر آيات الله نجد أنَّه بالتقوى تصوَّب المفاهيم ويحسن العمل ويتسمّى البعض لأجلها بالـ"متَّقين" وبالتالي فهي التي ترفعهم إلى مقامٍ أمين يوم القيامة.

أما الاكتشافات العلمية الحديثة، فهي تشير إلى أن إدراك الأحياء لمحيطها وما قد يشكِّل خَطَراً عليها يُحدِث فيها تغييراً على المستوى الجيني في حمضها النووي -وإني أجد ذلك مثيراً وجديراً بالاهتمام لأنَّ هذا الإدراك في الإنسان هو بعض من تقواه، لذا فقول الله عزَّ وجلَّ "وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ" قد تعني فوق التعلَّم، أنَّ معالِم التقوى تغدو ظاهرةً فينا... والله أعلم! إلى أين إذاً يمكن للإنسان أن يرتقي بالتقوى ؟

إننا بالتقوى نُحَقِّق قدراتنا المكنونة فينا، وبالتالي فإن التقوى هي مسلكنا إلى الله"

"إن المفهوم العام للعقاب والخلود في جهنَّم يرتبط بما ألِفناه من المعاني أكثر من ارتباطه بما في القرآن من الحقائق التي لا تُفهَم إلا بلسانه العربي المبين.
نحن أحرار فيما نختار من الخيارات أمامنا ولنتفق أولاً على أن حرية القيام بما نختاره محدودة بما يحقّ لنا القيام به كما في المثل القائل: "تنتهي حريتك حيث تبدأ حرية الآخرين". فالحرية مقَيَّدة بظروف تتعلق بالمحيط وبالتربية وبالطبائع الفردية وبالتكوين النفسي. ولهذا فإن لكل فعل من أفعالنا عواقب محددة يتم الحكم بعد ذلك على أحدنا بشكل فردي: وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ‎﴿مريم: ٩٥﴾‏

إنَّ الذين يرتكبون الكبائر في هذه الدنيا هم غالباً من الذين لا يؤمنون بالحساب، فمن العدل بعد ذلك -إن لم يتوبوا ويصلحوا- أن يكونوا مسؤولين أمام من ظَلَموا وأن تصلهم عواقب ما اكتسبوه من الأذى والظلم. يبين لنا القرآن كيف يأتي العقاب عقب عمل الإنسان كنتيجةٍ طبيعية له، قد كسب صاحبه "عاقبة" معينة أو "جزاء" ليس إلا نتيجة تابعة لأفعاله.
The words we use in Arabic- ‘aaqibah/ iqaab-عاقبة/عقاب – literally mean ‘what follows on one’s heel’ (although some may have mistranslated these words as ‘punishment’).
أما إذا أردنا أن نتساءل عن "متى" سيتحمَّل غير التائبين من الناس عواقب أفعالهم، فإن الإجابة هي الله أعلم، والظاهر أنَّهم سيعانون بعض العواقب في هذه الحياة الدنيا، إلا أنه سيتم تسليمهم كامل مستحقِّهم في الآخرة. أما المدة، فليس من اختصاصنا الخوض في ذلك خاصَّةً وأنَّ الوقت أمر نسبي منسوب إلى وجودنا الحالي. أما تعريف الخلود لغوياً فهو الثبات والملازمة للشيء والإقامة فيه، وكلمة الخلود ليست تعبيراً عن مدةٍ زمنيةٍ لا متناهيةٍ كما نفهمها، فدوام الخلود في النار سيكون بما يشاء الله، وما دامت السماوات والأرض: ﴿....قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾‏ ‎﴿الأنعام: ١٢٨﴾‏ ‎﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾‏ ‎﴿هود: ١٠٧﴾‏
يجدر بالتنويه هنا إلى أنَّ جهنّم -عدا عن نارها- هي هاوية بعيدة القعر كما يقول ابن منظور في لسان العرب: "جهنم: الجِهنّامُ: القَعْرُ البعيد. وبئر جَهَنَّمٌ وجِهِنَّامٌ، بكسر الجيم والهاء: بعيدة القَعْر"
According to our1000 year old Lexicon:
• ‘Khaalid’ means ‘inclined to something,’ ‘stuck fast’ in it so that it fits, like a ‘khuld’ – خلد-or a mole snug in the ground.
• ‘Jahannam,’ quite specifically, is the bottom of an abyss.
ونرى من ذلك، والله أعلم، بعداً آخر لقوله عزَّ وجلّ: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ ‎﴿التين: ٥﴾‏
يا للفرق بين من خُيِّروا، فاختاروا الإثم والعدوان وردُّوا أسفل سافلين، وبين من خُيِّروا، فاختاروا البر والتقوى فسمّاهم ربهم بالأبرار: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ‎﴿المطففين: ١٨﴾‏
إذاً لنا الحرية الكاملة في اختيار طريقنا ضمن ظروفنا دون عدوانٍ على الآخرين وستتم محاسبة كلٍّ منا بما هو مسؤول عنه فيوفّى أعماله: وَإِنَّ كُلًّا لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‎﴿هود: ١١١﴾‏

هذا سؤال صعب، لكن لأنَّ لكل جماعة دينية أماني تدَّعيها على حساب غيرها، أجد في الآيات أدناها كلمةَ حقٍّ إلهية يجب أنْ تعلَّق على جدران المساجد والكنائس والصوامع والبيوت:

﴿لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۗ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‎﴿١٢٣﴾‏ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا﴾ ﴿النساء: ١٢٤﴾‏

كفى من اغترار كل مجموعة بنفسها، وكفى من عجرفتها على الآخرين!

إننا سواسية
لا يمتاز أحدنا عن الآخر إلا بالعمل الصالح
فلكل عمل عاقبة وأجر
ولا يظلم ربنا أحدا

"شكراً! كان تجميع صفحاته البالغ عددها 280 صفحة باللغتين العربية والإنكليزية أمراً مرهقاً للغاية، وقد استغرق سنوات من البحث والمراجعة والترجمة وإعادة الكتابة. كان الضغط ثقيلًا ليس على عائلتي فحسب بل على صحتي أيضاً. كانت مسؤولية كتابة كتاب كهذا مسؤولية كبيرة أبقتني ليالي لا تعد ولا تحصى أطلب من الله الهداية. ثم، بعد الانتهاء من الكتابة وبعد التصويب اللغوي لزم للكتاب أن يمر عبر القنوات الرسمية اعتماداً من قِبَل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ثم طبعه في سورية، وقد حصل، وكان ذلك مدعاةً للفرج والراحة: فالآن يمكن الاطمئنان إلى أنَّه قد تم التحقق من المعلومات الواردة فيه.

لقد لاقت النسخة العربية استحساناً مدهشاً والحمد لله، فقد صدرت الطبعة الثانية من الكتاب بعد شهرين الأولى التي أطلقتها دار الفكر في معرض الشارقة للكتاب في تشرين الثاني/نوفمبر 2022.

أتمنى للنسخة الإنكليزية -وهي قيد الطبع الآن في الولايات المتحدة الأمريكية- أن تحقق ذات النجاح."

يسرّني التحدث عن عملي. سيتعين علينا مناقشة على الأمور اللوجستية لنرى كيف تتَّفق أوقاتنا."

أتمنى أن يرى الناس عالمنا من خلال المقصد القرآني بدل ما دَرَجَ لدينا عموماً من تفسيرات وتطبيقات، لأننا من خلال كشف هذا المقصد ، يتَّضح المنظور الذي أراه لإنسانية واحدة، ورسالة ربّانية طالما كانت واحدة، ومستقبلاً زاهراً يمكن أن يصبح ما نتطلع إليه جميعاً.